للأسف الشديد انضافت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لساحات الوغى التي تدور فيها رحى المعركة السياسية والشخصية الطاحنة بين رأسي السلطة التنفيذية والحزام السياسي لكل منهما، وهو ما أدى إلى مأزق تسيير خطير يتسبب اليوم في تعطيل الهيئة وضرب ”جهود الحد الأدنى الرسمي“ التي تقوم بها لمكافحة الفساد. كما أدى إلى انطلاق حملة هرسلة وانتقام من عدد من المبلغين عن الفساد من طرف مسؤولين في هياكل عمومية
القرار الاعتباطي لرئيس الحكومة بإقالة رئيس الهيئة السيد عماد بوخريص وتعويضه برئيس آخر قادم من القضاء السيد عماد بن طالب تسبب في إرباك كبير جدا، حيث غادر الرئيس المعزول الهيئة ولن يستطع الرئيس الجديد تولي المنصب الشاغر بالنظر للرفض المتوقع لرئيس الجمهورية تمكينه من أداء القسم الدستوري أمامه في قصر قرطاج. وبالنظر أيضا إلى القرار الأخير لمجلس القضاء العدلي القاضي بانهاء إلحاق القضاة العدليين بالمؤسسات العليا للدولة. وبالتالي وجدت الهيئة نفسها تحت اشراف بالنيابة من طرف الكاتب العام السيد أنور بن حسن، المكلف فقط بتسيير الشؤون الادارية والمالية اليومية، ويتلقى تعليمات مباشرة من رئيس ديوان رئيس الحكومة. والله أعلم الى متى سيتواصل هذا الوضع الكارثي الذي يفتح الباب ليس فقط لتجميد عمل الهيئة وتعطيل أعمال التقصي والمتابعة في عدد من قضايا الفساد الضخمة، وإنما الى التلاعب بالهيئة وملفاتها السرية ومعطيات الاف التونسيين المتعلقة بالتصريح بالمكتسبات وغيرها
وينضاف الى هذه الانشغالات الكبرى، خطر حقيقي يتمثل في استغلال بعض المسؤولين لهياكل عمومية وغيرها فرصة أزمة الهيئة للقيام بعمليات ترهيب وهرسلة وانتقام من بعض المُبلّغين عن الفساد المشمولين بقرارات حماية من قبل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد الذين تقدّموا طواعية لدى الهيئة للتبليغ عن ملفّات فساد بمؤسساتهم
وقد وردتنا شكايات من مبلغين عن تعرضهم لاجراءات استثنائية فجئية خلال الأيام الماضية تتناقض مع مقتضيات الحماية القانونية التي يكفلها لهم القانـون الأساسي عدد 10 لسنة 2017 المؤرخ في 7 مارس 2017 المتعلق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين. وهو ما يؤكد النية المبيتة لبعض المسؤولين، وخاصة منهم المرتبطين بشبكات الفساد والمصلحة المتضررة من إبلاغات الموظفين الشجعان، لاستغلال الارباك الحاصل في الهيئة والمنتظر استدامته للانتقام من المبلغي، وتوجيه رسالة ردع لكل من تسول له نفسه كشف الخور والتجاوزات والتصدي للتلاعب بالمال العام
وإذ يعبر المرصد عن تضامنه المطلق مع أولئك الموظفين الشرفاء، فانه مستعد للتعاون معهم للدفاع عن حقوقهم والتصدي لمحاولات هرسلتهم وللمطالبة بتفعيل الفصول القانونية في القانون الاساسي المذكور التي تنص على تسليط عقوبات قاسية على كل من يقوم بأي نوع من أنواع المرسلة والانتقام تجاه المبلغين عن الفساد
كل هذا بسبب الزج بهيئة مكافحة الفساد في أتون معركة كسر العظم الغبية في أعلى هرم الدولة. ويحمل ”مرصد رقابة“ أطراف النزاع أي تدهور لوضع الهيئة وأي تسريب لملفاته ووثائقها، وأي انتهاكات في حق المواطنين الذين وثقوا في الهيئة وفي قوانين الدولة التونسية وضحوا باستقرارهم المهني وحظوظهم من أجل الدفاع عن المال العام والتصدي للفساد المستشري. كما يحذر تلك الأطراف من أي نوايا مبيّتة للتحكم في هيئة مكافحة الفساد وادخالها بيت الطاعة، ومصادرة عملها وقراراتها وتوجيهاتها وذلك بإحداث فراغ داخلها والتضييق على استقلاليتها مقابل اقحام السلطة التنفيذية في عملها
يا أيها المتخاصمون المتنازعون المتصارعون ان كنتم تنوون مواصلة معاركم والبلاد على حافة الهاوية، فعلى الأقل ابتعدوا عن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد حتى لا تساهموا بصراعاتكم في مزيد تفشي وباء الفساد المخرب للأوطان وفي تحضير الميدان للوبيات الفساد لمزيد الهيمنة والنفوذ، وربما لقيادة البلاد في المستقبل القريب بشكل مباشر دون المرور بواجهات سياسية ومدنية